الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المحيط في تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)
برفع أحضر، والتقدير أن أحضر، فلما حذف أن، ارتفع الفعل، وليس هذا من المواضع التي يحذف منها أن قياساً، أو على إنزال الفعل منزلة المصدر من غير ما يسبكه له، كما قال الخليل في قول: أي أرادني لأنسى حبها، فيكون التقدير في هذين الوجهين: ومن آياته إراءته إياكم البرق، فمن آياته في موضع رفع على أنه خبر المبتدأ. وقال الرماني: يحتمل أن يكون التقدير: ومن آياته يريكم البرق بها، وحذف لدلالة من عليها، كما قال الشاعر: أي: فمنهما تارة أموات، ومن على هذه الأوجه الثلاثة للتبعيض. وانتصب {خوفاً وطمعاً} على أنهما مصدران في موضع الحال، أي خائفين وطامعين. وقيل: مفعول من أجله. وقال الزجاج: وأجازه الزمخشري على تقدير إرادة خوف وطمع، فيتحد الفاعل في العامل والمحذوف، ولا يصح أن يكون العامل يريكم، لاختلاف الفاعل في العامل والمصدر. وقال الزمخشري: المفعولون فاعلون في المعنى، لأنهم راؤون مكانه، فكأنه قيل: لجعلكم رائين البرق خوفاً وطمعاً. انتهى. وكونه فاعلاً، قيل: همزة التعدية لا تثبت له حكمه بعدها، على أن المسألة فيها خلاف. مذهب الجمهور: اشتراط اتحاد الفاعل، ومن النحويين من لا يشترطه. ولو قيل: على مذهب من يشترطه. أن التقدير: يريكم البرق فترونه خوفاً وطمعاً، فحذف العامل للدلالة، لكان إعراباً سائغاً واتحد فيها الفاعل. وقال الضحاك: خوفاً من صواعقه، وطمعاً في مطره. وقال قتادة: خوفاً للمسافر، وطمعاً للمقيم. وقيل: خوفاً أن يكون خلباً، وطمعاً أن يكون ماطراً. وقال الشاعر: وقال ابن سلام: خوفاً من البرد أن يهلك الزرع، وطمعاً في المطر أن يحييه. {ومن آياته أن تقوم}: أن تثبت وتمسك، مثل: وإذا أظلم عليهم قاموا: أي ثبتوا بأمره، أي بإرادته. وإذا الأولى للشرط، والثانية للمفاجأة جواب الشرط، والمعنى: أنه لا يتأخر طرفة عين خروجكم عن دعائه، كما يجيب الداعي المطيع مدعوه، كما قال الشاعر: قرين الطود: الصدا، أو الحجران أيد هذا. والطود: الجبل. و{الدعوة}: البعث من القبور، و{من الأرض} يتعلق بدعاكم، و{دعوة}: أي مرة، فلا يحتاج إلى تكرير دعاءكم لسرعة الإجابة. وقيل: {من الأرض} صفة لدعوة. وقال ابن عطية: ومن عندي هنا لأنتهاء الغاية، كما يقول: دعوتك من الجبل إذا كان المدعو في الجبل. انتهى. وكون من لأنتهاء الغاية قول مردود عند أصحابنا. وعن نافع ويعقوب: أنهما وقفا على دعوة، وابتدآ من الأرض. {إذا أنتم تخرجون} علقاً من الأرض بتخرجون، وهذا لا يجوز، لأن فيه الفصل بين الشرط وجوابه، بالوقف على دعوة فيه إعمال ما بعد إذا الفجائية فيما قبلها، وهو لا يجوز. وقال الزمخشري: وقوله: {إذا دعاكم} بمنزلة قوله: {يريكم} في إيقاع الجملة موقع المفرد على المعنى، كأنه قال: ومن آياته قيام السموات والأرض، ثم خروج الموتى من القبور إذا دعاهم دعوة واحدة: يا أهل القبور أخرجوا، وإنما عطف هذا على قيام السموات والأرض بثم، بياناً لعظيم ما يكون من ذلك الأمر واقتداره على مثله، وهو أن يقول: يا أهل القبور قوموا، فلا تبقى نسمة من الأولين والآخرين إلا قامت تنظر.انتهى. وقرأ حمزة والكسائي: تخرجون، بفتح التاء وضم الراء؛ وباقي السبعة: بضمها وفتح الراء.وبدأ أولاً من الآيات بالنشأة الأولى، وهي خلق الإنسان من التراب، ثم كونه بشراً منتشراً، وهو خلق حي من جماد، ثم أتبعه بأن خلق له من نفسه زوجاً، وجعل بينهما تواد، وذلك خلق حي من عضو حي. وقال: {لقوم يتفكرون}، لأن ذلك لا يدرك إلا بالفكر في تأليف بين شيئين لم يكن بينهما تعارف، ثم أتبعه بما هو مشاهد للعالم كلهم، وهو خلق السموات والأرض، واختلاف اللغات والألوان، والاختلاف من لوازم الإنسان لا يفارقه. وقال: {للعالمين}، لأنها آية مكشوفة للعالم، ثم أتبعه بالمنام والابتغاء، وهما من الأمور المفارقة في بعض الأوقات، بخلاف اختلاف الألسنة والألوان. وقال: {لقوم يسمعون}، لأنه لما كان من أفعال العبادة قد يتوهم أنه لا يحتاج إلى مرشد، فنبه على السماع، وجعل البال من كلام المرشد. ولما ذكر عرضيات الأنفس اللازمة والمفارقة، ذكر عرضيات الآفاق المفارقة من إراءة البرق وإنزال المطر، وقدمها على ما هو من الأرض، وهو الإتيان والإحياء، كما قدم السموات على الأرض، وقدم البرق على الإنزال، لأنه كالمبشر يجيء بين يدي القادم. والأعراب لا يعلمون البلاد المعشبة، إن لم يكونوا قد رأوا البروق اللائحة من جانب إلى جانب. وقال: {لقوم يعقلون}، لأن البرق والإنزال ليس أمراً عادياً فيتوهم أنه طبيعة، إذ يقع ذلك ببلدة دون أخرى، ووقتاً دون وقت، وقوياً وضعيفاً، فهو أظهر في العقل دلالة على الفاعل المختار، فقال: هو آية لمن عقل بأن لم يتفكر تفكراً تاماً.ثم ختم هذه الآيات بقيام السموات الأرض، وذلك من العوارض اللازمة، فإن كلاًّ من السماء والأرض لا يخرج عن مكانه، فيتعجب من وقوف الأرض وعدم نزولها، ومن علو السماء وثباتها من غير عمد. ثم أتبع ذلك بالنشأة الأخرى، وهي الخروج من الأرض، وذكر تعالى من كل باب أمرين: من الأنفس خلقكم وخلق لكم، ومن الآفاق السماء والأرض، ومن لوازم الإنسان اختلاف الألسنة واختلاف الألوان، ومن خواصه المنام والابتغاء، ومن عوارض الآفاق البرق والمطر، ومن لوازمه قيام السماء وقيام الأرض.
وقال ابن عباس: مطيعون، أي في تصريفه، لا يمتنع عنه شيء يريد فعله بهم، من حياة وموت وصحة ومرض، فهي طاعة الإرادة لا طاعة العبادة. وقيل: قائمون يوم القيامة، يوم يقوم الناس لرب العالمين. وإذا حمل القنوت على الإخلاص، كما قال ابن جبير، أو على الإقرار بالعبودية، أو قانتون من ملك ومؤمن، لأن كل عام مخصوص. {وهو أهون عليه}: أي والعود أهون عليه، وليست أهون أفعل تفضيل، لأنه تفاوت عند الله في النشأتين: الإبداء والإعادة، فلذلك تأوله ابن عباس والربيع بن خيثم على أنه بمعنى هين، وكذا هو في مصحف عبد الله. والضمير في عليه عائد على الله. وقيل: أهون للتفضيل، وذلك بحسب معتقد البشر وما يعطيهم النظر في المشاهد من أن الإعادة في كثير من الأشياء أهون من البداءة، للاستغناء عن الروية التي كانت في البداءة؛ وهذا، وإن كان الاثنان عنده تعالى من اليسر في حيز واحد. وقيل: الضمير في عليه عائد على الخلق، أي والعود أهون على الخلق: بمعنى أسرع، لأن البداءة فيها تدريج من طور إلى طور إلى أن يصير إنساناً، والإعادة لا تحتاج إلى هذه التدريجات في الأطوار، إنما يدعوه الله فيخرج، فكأنه قال: وهو أيسر عليه، أي أقصر مدة وأقل انتقالاً. وقيل: المعنى وهو أهون على المخلوق، أي يعيد شيئاً بعد إنشائه، فهذا عرف المخلوقين، فكيف تنكرون أنتم الإعادة في جانب الخالق؟ قال ابن عطية: والأظهر عندي عود الضمير على الله تعالى، ويؤيده قوله تعالى: {وله المثل الأعلى}، كما جاء بلفظ فيه استعاذة واستشهاد بالمخلوق على الخالق، وتشبيه بما يعهده الناس من أنفسهم، خلص جانب العظمة، بأن جعل له المثل الأعلى الذي لا يتصل به، فكيف ولا تمثال مع شيء؟ انتهى. وقال الزمخشري: فإن قلت: لم أخرت الصلة في قوله: {وهو أهون عليه}، وقدمت في قوله: {هو علي هين} قلت: هنالك قصد الاختصاص، وهو تجبره، فقيل: وهو على هين، وإن كان مستصعباً عندك، وإن تولد بين هرم وعاقر. وأما هنا لا معنى للاختصاص، كيف والأمر مبني على ما يعقلون من أن الإعادة أسهل من الابتداء؟ فلو قدمت الصلة لتغير المعنى. انتهى. ومبنى كلامه على أن تقديم المعمول يؤذن بالاختصاص، وقد تكلمنا معه في ذلك، ولم نسلمه في قوله: {إياك نعبد} {وله المثل الأعلى}، قيل: هو متعلق بما قبله، قاله الزجاج، وهو قوله: {وهو أهون عليه}؛ قد ضربه لكم مثلاً فيما يسهل أو يصعب.وقيل: بما بعده من قوله: {ضرب لكم مثلاً من أنفسكم}. وقيل: المثل: الوصف الأرفع الأعلى الذي ليس لغيره مثله، وهو أنه القادر الذي لا يعجز عن شيء من إنشاء وإعادة وغيرهما. {وهو العزيز}: أي القاهر لكل شيء، الحكيم الذي أفعاله على مقتضى حكمته. وعن مجاهد: المثل الأعلى قوله: {لا إله إلاّ الله} وله الوصف بالوحدانية، ويؤيده قول: {ضرب لكم}.وقال ابن عباس وغيره: بين تعالى أمر الأصنام وفساد معتقد من يشركها بالله، بضربه هذا المثل، ومعناه: أنكم أيها الناس، إذا كان لكم عبيد تملكونهم، فإنكم لا تشركونهم في أموالكم ومهم أموركم، ولا في شيء على جهة استواء المنزلة، وليس من شأنكم أن تخافوهم في أن يرثوا أموالكم، أو يقاسمونكم إياها في حياتكم، كما يفعل بعضكم ببعض؛ فإذا كان هذا فيكم، فكيف تقولون: إن من عبيده وملكه شركاء في سلطانه وألوهيته وتثبتون في جانبه ما لا يليق عندكم بجوانبكم؟ وجاء هذا المعنى في معرض السؤال والتقرير. وقال السدي: كانوا يورثون آلهتهم، فنزلت. وقيل: لما نزلت، قال أهل مكة: لا يكون ذلك أبداً، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «فلم يجوز لربكم»؟ومن في: {من أنفسكم} لابتداء الغاية، كأنه قال: أخذ مثلاً، وافترى من أقرب شيء منكم، وهو أنفسكم، ولا يبعد. ومن في: {مما ملكت} للتبعيض، ومن في: {من شركاء} زائدة لتأكيد الاستفهام الجاري مجرى النفي. يقول: ليس يرضى أحد منكم أن يشركه عبده في ماله وزوجته وما يختص به حتى يكون مثله، فكيف ترضون شريكاً لله، وهو رب الأرباب ومالك الأحرار والعبيد؟وقال أبو عبد الله الرازي: وبين المثل والممثل به مشابهة ومخالفه. فالمشابهة معلومة، والمخالفة من وجوه: قوله: {من أنفسكم}: أي من نسلكم، مع حقارة الأنفس ونقصها وعجزها، وقاس نفسه عليكم مع عظمتها وجلالتها وقدرتها. وقوله: {مما ملكت أيمانكم}: أي عبيدكم، والملك ما قبل النقل بالبيع، والزوال بالعتق، ومملوكه تعالى لا خروج له عن الملك. فإذا لم يجز أن يشرككم مملوككم، وهو مثلكم من جميع الوجوه ومثلكم في الآدمية، حالة الرق، فكيف يشرك الله مملوكه من جميع الوجوه المباين له بالكلية؟ وقوله: {فيما رزقناكم}: يعني أن الميسر لكم في الحقيقة إنما هو الله ومن رزقه حقيقة، فإذا لم يجز أن يشرككم فيما هو لكم من حيث الاسم، فكيف يكون له تعالى شريك فيما له من جهة الحقيقة؟ انتهى، وفيه بعض تلخيص. و{شركاء} في موضع رفع بالابتداء، و{فيما رزقناكم} متعلق به، و{لكم} الخبر، و{مما ملكت} في موضع الحال، لأنه نعت نكرة تقدم عليها وانتصب على الحال، والعامل فيها العامل في الجار والمجرور، والواقع خبراً، وهو مقدر بعد المبتدأ. وما في فيما {رزقناكم} واقعة على النوع، والتقدير: هل شركاء فيما رزقناكم كائنون من النوع الذي ملكته أيمانكم كائنون لكم؟ ويجوز أن يتعلق لكم بشركاء، ويكون مما رزقناكم في موضع الخبر، كما تقول: لزيد في المدينة مبغض، فلزيد متعلق بمبغض الذي هو مبتدأ، وفي المدينة الخبر، و{فأنتم فيه سواء} جملة في موضع الجواب للاستفهام المضمن معنى النفي، وفيه متعلق بسواء، و{تخافونهم} خبر ثان لأنتم، والتقدير: فأنتم مستوون معهم فيما رزقناكم، تخافونهم كما يخاف بعضكم بعضاً أيها السادة.والمقصود نفي الشركة والإستواء والخوف، وليس النفي منسحباً على الجواب وما بعده فقط، كأحد وجهي ما تأتينا فتحدثنا، أي ما تأتينا فتحدثنا، إنما تأتي ولا تحدث، بل هو على الوجه الآخر، أي ما تأتينا فكيف تحدثنا؟ أي ليس منك إتيان فلا يكون حديث. وكذلك هذا ليس لهم شريك، فلا استواء ولا خوف. وقرأ الجمهور:، بالنصب، أضيف المصدر إلى الفاعل؛ وابن أبي عبيدة: بالرفع، أضيف المصدر للمفعول، وهما وجهان حسنان، ولا قبح في إضافة المصدر إلى المفعول مع وجود الفاعل.{كذلك}: أي مثل ذلك التفصيل، {نفصل الآيات}: أي نبينها، لأن التمثيل مما يكشف المعاني ويوضحها، لأنه بمنزلة التصوير والتشكيل لها. ألا ترى كيف صور الشرك بالصورة المشوهة؟ وقرأ الجمهور: نفصل، بالنون، حملاً على رزقناكم؛ وعباس عن ابن عمر: بياء الغيبة، رعياً لضرب، إذ هو مسند للغائب. وذكر بعض العلماء في هذه الآية دليلاً على صحة أصل الشركة بين المخلوقين، لافتقار بعضهم إلى بعض، كأنه يقول: الممتنع والمستقبح شركة العبيد لساداتهم؛ أما شركة السادات بعضهم لبعض فلا يمتنع ولا يستقبح. والإضراب ببل في قوله: {بل اتبع} جاء على ما تضمنته الآية، إذ المعنى: ليس لهم حجة ولا معذرة فيما فعلوا من إشراكهم بالله، بل ذلك بمجرد هوى بغير علم، لأنه قد يكون هوى للإنسان، وهو يعلم. و{الذين ظلموا}: هم المشركون، اتبعوا أهواءهم جاهلين هائمين على أوجههم، لا يرغمهم عن هواهم علم، إذ هم خالون من العلم الذي قد يردع متبع الهوى. {فمن يهدي من أضل الله}: أي لا أحد يهدي من أضله الله، أي هؤلاء ممن أضلهم الله، فلا هادي لهم. وقال الزمخشري: من أضل الله: من خذله الله ولم يلطف به، لعلمه أنه ممن لا لطف له ممن يقدر على هداية مثله. {وما لهم من ناصرين}: دليل على أن المراد بالإضلال الخذلان. انتهى، وهو على طريقة الاعتزال.{فأقم وجهك للدين}: فقوم وجهك له وعدله غير ملتفت، وهو تمثيل لإقباله على الدين واستقامته عليه وثباته واهتمامه بأسبابه. فإن من اهتم بالشيء، عقد عليه طرفه وقوم له وجهه مقبلاً به عليه، والدين دين الإسلام. وذكر الوجه، لأنه جامع حواس الإنسان وأشرفه. و{حنيفاً}: حال من الضمير في أقم، أو من الوجه، أو من الدين، ومعناه: مائلاً عن الأديان المحرفة المنسوخة.{فطرة الله}: منصوب على المصدر، كقوله: {صبغه الله} وقيل: منصوب بإضمار فعل تقديره: التزم فطرة الله. وقال الزمخشري: الزموا فطرة الله، أو عليكم فطرة الله. وإنما أضمرت على خطاب الجماعة لقوله: {منيبين إليه}، ومنيبين حال من الضمير في الزموا. وقوله: {وأقيموا}، {ولا تكونوا}، معطوف على هذا المضمر. انتهى. وقيل: {فأقم وجهك}، المراد به: فأقيموا وجوهكم، وليس مخصوصاً بالرسول وحده، وكأنه خطاب لمفرد أريد به الجمع، أي: فأقم أيها المخاطب، ثم جمع على المعنى، لأنه لا يراد به مخاطب واحد. فإذا كان هذا، فقوله: {منيبين}، {وأقيموا}، {ولا تكونوا} ملحوظ فيه معنى الجمع. وقول الزمخشري: أو عليكم فطرة الله لا يجوز، لأن فيه حذف كلمة الإغراء، ولا يجوز حذفها، لأنه قد حذف الفعل وعوض عليك منه. فلو جاء حذفه لكان إجحافاً، إذ فيه حذف العوض والمعوض منه.والفطرة، قيل: دين الإسلام، والناس مخصوصون بالمؤمنين. وقيل: العهد الذي أخذه الله على ذرية آدم حين أخرجهم نسماً من ظهره ورجح الحذاق. إنها القابلية التي في الطفل للنظر في مصنوعات الله، والاستدلال بها على موجده، فيؤمن به ويتبع شرائعه، لكن قد تعرض له عوارض تصرفه عن ذلك، كتهويد أبويه له، وتنصيرهما، إغواء شياطين الإنس والجن.{لا تبديل لخلق الله}: أي لا تبديل لهذه القابلية من جهة الخالق. وقال مجاهد، وابن جبير، والضحاك، والنخعي، وابن زيد: لا تبديل لدين الله، والمعنى: لمعتقدات الأديان، إذ هي متفقة في ذلك. وقال الزمخشري: أي ما ينبغي أن تبدل تلك الفطرة أو تغير. وقال ابن عباس: لا تبديل لقضاء الله بسعادتهم وشقاوتهم، وقيل: هو نفي معناه: النهي، أي لا تبدلوا ذلك الدين. وقيل: {لا تبديل لخلق الله} بمعنى: الواحدانية مترشحة فيه، لا تغير لها، حتى لو سألته: من خلق السموات والأرض؟ تقول: الله. ويستغرب ما روي عن ابن عباس أن معنى {لا تبديل لخلق الله}: النهي عن خصاء الفحول من الحيوان. وقول من ذهب إلى أن المعنى في هذه الجملة ألجأ على الكفرة، اعترض به أثناء الكلام، كأنه يقول: أقم وجهك للدين الذي من صفته كذا وكذا، فإن هؤلاء الكفرة ومن خلق الله لهم الكفر، و{لا تبديل لخلق الله}: أي أنهم لا يفلحون ذلك الذي أمرت بإقامة وجهك له، هو الدين المبالغ في الاستقامة. والقيم: بياء مبالغة، من القيام، بمعنى الاستقامة، ووزنه فعيل، أصله قيوم كيد، اجتمعت الياء والواو، وسبقت إحداهما بالسكون، فقلبت الواو ياء، وأدغمت الياء فيها، وهو بناء مختص بالمعتل العين، لم يجئ منه في الصحيح إلا بيئس وصيقل علم لامرأة.{منيبين}: حال من {الناس}، ولاسيما إذا أريد بالناس: المؤمنون، أو من الضمير في: الزموا فطرة الله، وهو تقدير الزمخشري، أو من الضمير في: {فأقم}، إذ المقصود: الرسول وأمته، وكأنه حذف معطوف، أي فأقم وجهك وأمتك.وكذا زعم الزجاج في: {يا أيها النبي إذا طلقتم} أي يا أيها النبي والناس، ودل على ذلك مجيء الحال في {منيبين} جمعاً، وفي {إذا طلقتم} جاء الخطاب فيه وفي ما بعده. جمعاً، أو على خبر كان مضمرة، أي كونوا منيبين، ويدل عليه قوله بعد {ولا تكونوا}، وهذه احتمالات منقولة كلها. {من المشركين}: من اليهود والنصارى، قاله قتادة. وقال ابن زيد: هم اليهود؛ وعن أبي هريرة وعائشة: أنهم أهل القبلة، ولفظة الإشراك على هذا تجوز بأنهم صاروا في دينهم فرقاً. والظاهر أن المشركين: كل من أشرك، فيدخل فيهم أهل الكتاب وغيرهم. و{من الذين}: بدل من المشركين، {فرقوا دينهم}: أي دين الإسلام وجعلوه أدياناً مختلفة لاختلاف أهوائهم. {وكانوا شيعاً}: كل فرقة تشايع إمامها الذي كان سبب ضلالها. {كل حزب}: أي منهم فرح بمذهبه مفتون به. والظاهر أن {كل حزب} مبتدأ و{فرحون} الخبر. وقال الزمخشري: ويجوز أن يكون {من الذين} منقطعاً مما قبله ومعناه: من المفارقين دينهم. كل حزب فرحين بما لديهم، ولكنه رفع فرحون على الوصف لكل، كقوله: قدر أولاً فرحين مجرورة صفة لحزب، ثم قال: ولكنه رفع على الوصف لكل، لأنك إذا قلت: من قومك كل رجل صالح، جاز في صالح الخفض نعتاً لرجل، وهو الأكثر، كقوله: وجاز الرفع نعتاً لكل، كقوله: يرفع هو جاء صفة لكل.
|